إمام البخلاء
حُكي أن رجلًا بلغ في البخل مبلغًا لم يبلغه أحد من أهل زمانه، حتى لقبوه بـ**"إمام البخلاء"**، إذ لم يكن له في الشحّ مثيل، ولا في الإمساك عن الإنفاق نظير.
ومع كثرة ماله وتضاعف ثروته، بعد أن ورث ثروة كبيرة، لم يتغيّر حاله، بل ازداد بخلًا فوق بخله، وصار يزدري كل درهم يخرج من يده وكأن فيه روحه.
وكان إذا قبض على درهم جديد، نظر إليه نظرة حبٍّ ولهفة، ثم قرّبه من وجهه وهمس له بكلمات تشبه الدعاء:
"كم من أرض قد قطعت! وكم من كيس قد فارقت! وكم من خامل رفعت! وكم من عزيز أخملت!
لك عندي عهدٌ ألا تعرى، ولا تُهان، ولا تُذل، ولا تُنفق! فاسكن على اسم الله في هذا الكيس المبارك."
ثم يلقي الدرهم في كيسه وكأنه يلقيه في حصنٍ منيع، لا يُفتح ولا يُمسّ.
وكان من شدّة بخله، إذا دخل درهم إلى كيسه، لم يخرج منه أبدًا.
وذات يوم، ألحّت عليه زوجته وأهله أن يشتري لهم شيئًا من الطعام يشتهونه، فحاول المراوغة والتأجيل، لكنهم ألحّوا عليه حتى ضاق صدره، فوافق على مضض، وأخرج درهمًا واحدًا، ومضى به إلى السوق وكأنما يمشي إلى الموت.
وفي طريقه، رأى حاويًا يُلاعب أفعى أمام الناس، ثم فجأة أطلقها على نفسه مقابل درهم واحد، فأخذها على عنقه وهو يضحك والناس يصفقون.
وقف البخيل يتأمل المشهد، ثم قال في نفسه:
"أأتلف درهمًا تُبذل فيه النفس؟! هذا الرجل يخاطر بحياته كلها لأجل درهم!
والله ما هذا إلا موعظة أرسلها الله إليّ!"
فعاد مسرعًا إلى بيته، وردّ الدرهم إلى كيسه، وقال له بصوت خافت:
"عذرًا أيها العزيز، لقد كدت أفقدك!"
وكان أهله في بلاء لا يُطاق من بخله، يتمنون أن يُفكّ أسرهم منه بأي وسيلة، حتى جاءهم اليوم الموعود... مات البخيل!
فرحوا بخلاصهم، وظنوا أن أيام الحرمان قد انتهت، لكنهم لم يعلموا ما هو قادم!
فما إن دُفن الرجل، حتى تولّى ابنه إدارة المال والدّار، وجمع أهله وقال لهم:
– إن فساد البيت إنما يكون في الإدام، وما كان أبونا ليفسد بيته.
قالوا: كان إدامه جبنة صغيرة، يأكل منها دائمًا.
قال: أروني إياها.
فجاؤوه بها، وكانت قطعة صغيرة، قد حفرتها الأصابع كما يحفر السيل مجرىً في الرمل.
قال متعجبًا:
– ما هذه الحفرة؟
قالوا: لم يكن يقطع منها، بل كان يمسح باللقمة على وجه الجبنة، ومع الأيام حفرها كما ترى!
فقال الابن، وقد ذُهل:
– بهذا أفسدني أبي! وبهذا أفسد كل من حوله! والله لو كنت أعلم، ما صليت عليه!
ثم قال:
– أما أنا، فلا أمس الجبنة كما كان يفعل، بل أضعها بعيدًا، وأشير إليها باللقمة فقط!
إرسال تعليق