هُناكَ في أعالي البحرِ حيثُ الماءُ عميقٌ جدًّا، كان يحكُمُ مَلِكُ البحرِ عالَمَ ما تحتَ البحرِ.
لقد أَقَامَ قَلعتَهُ في أعمقِ نُقطةٍ في الماءِ. كانت جُدرانُها مَبنيَّةً منَ المَرجانِ الأزرقِ، وسقفُها من الأصدافِ التي تفتحُ وتُغلِقُ نفسَها كلَّما داعبتْها تيَّاراتُ الماءِ. هناك عاشَ مَلِكُ البحارِ مع أُمِّه وبَناتِه الأربعِ اللواتي تكبُرُ الواحدةُ منهنَّ الأخرى بعامٍ واحدٍ فقط.
كانت أصغرُ الأميراتِ الأربعِ تُدعى الحوريةَ الصغيرةَ. وكانت تمضي مُعظمَ وقتِها في العومِ إلى السُّفنِ الغارقةِ في قاعِ البحارِ. وكانت هذه السُّفنُ تحملُ في داخلها كنوزًا متنوِّعةً من العالَمِ العُلوي. وكانت هي تحملُ ما تشاءُ من هذه الكنوزِ وتُخبئُه هنا وهناكَ في أنحاءٍ متفرِّقةٍ من قاعِ الماءِ، وفي أثناءِ ذلك تُغنّي. وبينما كانت تُغنّي، كان السمكُ يتجمَّعُ حولها ليستمِعَ إليها؛ إذ كان صوتُها هو أجملُ صوتٍ في قاعِ البحرِ.
كانت الأميراتُ الأربعُ يعرفنَ أنهنَّ يستطعنَ الصعودَ إلى سطحِ الماءِ فقط عندما يبلغنَ الخامسةَ عشرةَ من العمرِ. وكان على الحوريةِ الصغيرةِ أن تنتظرَ سنواتٍ طويلةً حتى تستطيعَ ذلك؛ إذ كانت هي الأصغرُ من بينهن! ولهذا طلبت من جدتها أن تُحدِّثها بكلِّ شيءٍ عن الحياةِ على الأرضِ، وتحكيَ لها قصصَ السُّفنِ والمدنِ، وقصصَ الناسِ الذين عرَفَتهم في حياتها.
وسرعان ما بلغَت الأميرةُ الكبرى سنَّ الخامسةِ عشرةَ من العمرِ. كانت الأميرةَ الأولى التي سُمحَ لها بالصعودِ إلى سطحِ الماءِ. وعندما عادت من هناك، كان لديها الكثيرُ من القصصِ المُثيرةِ لترويها لأخواتِها الأميراتِ. حكَت لهنَّ كيف استلقَت على رمالٍ بيضاءَ ناعمةٍ على شاطئِ البحرِ، وكانت فوقها سماءٌ عاليةٌ زرقاءُ صافيةٌ تسبحُ فيها غيومٌ بيضاءُ كثيفة. كما حكَت لهنَّ كيف تحوَّلَت السماءُ إلى اللونِ الذهبيِّ الذي يُخالطه اللونُ الأحمرُ عندما بدأت الشمسُ تميلُ إلى المغيبِ. وروَت لهنَّ كيف استمتعت برؤية الطيورِ وهي تُحلِّقُ فوقها عاليًا، وتتداخلُ فيما بينها في السماء الذهبيةِ المشوبةِ بالحُمرةِ.
وعندما بلغَت الأميرةُ الثانيةُ سنَّ الخامسةِ عشرةَ من العمرِ، كان ذلك في فصلِ الشتاءِ. وحكَت لأخواتِها عند عودتِها من زيارتِها للشاطئِ عن رؤيتِها للجبالِ الجليديةِ العائمةِ في البحرِ واللامعةِ بشدةٍ، وروَت لهنَّ كيف تُحاولُ السفنُ الابتعادَ عنها، كما لو كانت تخافُ منها. لكن هذه الجبالَ العائمةَ لم تبدُ وحيدةً في عرض البحرِ؛ فقد كانت تطفو قريبةً بعضها من بعضٍ مثلَ الأصدقاءِ.
وعندما حان موعدُ بلوغِ الأميرةِ الثالثةِ سنَّ الخامسةِ عشرةَ، صعدت كأختَيها إلى سطحِ الماءِ وحكَت عندما عادت لأخواتِها كيف اقتربت قدرَ ما تستطيع من بوابةِ إحدى المدنِ. وهناك استمعت إلى صياحِ الناسِ وضجيجِهم، وسمعت صوت الخيولِ المشدودةِ باللجامِ وهي تسيرُ على الطريقِ، حتى إنها سمعت أيضًا موسيقى لم تسمع مثلها من قبل.
كانت الحوريةُ الصغيرةُ تستمعُ إلى حكاياتِ أخواتِها بدهشةٍ كبيرةٍ. ولم يكن من الإنصاف أن تنتظر سنواتٍ طويلةً حتى يحين دورها في خوض تجربتها مثل بقية أخواتها. وأخيرًا حلَّ هذا اليومُ الذي بلغت فيه الخامسةَ عشرةَ من العمرِ. وأصبحت الآن تستطيعُ أن تصعدَ إلى سطحِ البحرِ وترى بنفسها هذا العالمَ الجديدَ.
وعندما صعدت إلى سطحِ الماءِ، وجدت نفسها بالقربِ من سفينةٍ كبيرةٍ واقفةٍ وسطَ البحرِ. وكانت تصدحُ منها موسيقى جميلةٌ والبحَّارةُ يرقصون على سطحِها. من الواضح أنهم كانوا يستمتعونَ بوقتهم ويتضاحكون فيما بينهم. ويبدو أنهم كانوا يُقيمون حفلةً. ومن آنٍ لآخر كانت الأمواجُ ترفعها أكثر فأكثر نحو الأعلى، حتى أصبحت ترى بشكلٍ أفضلَ ما يجري على سطحِ السفينةِ. وعندما ظهر شابٌّ وسيمٌ على سطحِ السفينةِ، انطلقت مئات الطلقاتِ الناريةِ في الهواءِ. كانت الحفلة مُقامةً على شرفِهِ لمناسبةٍ ما. هل كانت هذه المناسبةُ الاحتفالَ بعيد ميلاده؟ اقتربت الحوريةُ الصغيرةُ أكثر فأكثر من السفينة. وبدا أن جميع البحارة على ظهر السفينة يحبون هذا الشاب. وكانوا يضحكون عندما يتحدث إليهم، ويربِّتون في بعض الأحيان بأيديهم على ظهره في مرحٍ. وفي إحدى المرات، وقع تاجُه عن رأسه. وحينها ضحك الرجال والتقطوه. وقالت الحورية الصغيرة: «تاج! لا بدَّ أنه أمير.»
وفجأةً اكفهرَّت السماءُ بالغيومِ السوداءِ، وهبَّت ريحٌ عاتيةٌ. وبدأ البحارة يُسرعون الخطى على سطح السفينة، وأنزلوا الأشرعة، وأخذت السفينة تهتزُّ وتتمايل وتتأرجح من جانبٍ لآخر ولأعلى وأسفل وسط الأمواج العاتية.
وسرعان ما هبَّت عاصفةٌ مطيرةٌ هوجاءٌ صاحَبَها برقٌ ورعد. وبدأت السفينة تميل على أحد جانبيها وسط الأمواج العاتية! وأصبح الظلام دامسًا لدرجة أعمَت الحورية الصغيرة عن رؤية ما حولها، ثم أضاء البرق السماءَ واستطاعت أن ترى الأميرَ الشابَّ على سطح السفينة. وكان يبدو أنه الوحيد الذي بقي على سطح السفينة! كان يسعى جاهدًا للمحافظة على توازن السفينة ومنعها من الغرق، كما كان يُلقي بالحبال إلى البحارة الذين سقطوا في الماء. وفجأةً أصبحت الأمواج عاليةً بشكلٍ كبير، وبدأت السفينة تنقلب. ودفع هذا بالأمير الشاب إلى طرف السفينة قبل أن يقذف به عاليًا في الهواء ليسقط بعدها في عرض البحر.
اختفى الأمير الشاب في قلب البحر بشكلٍ سريع. ولكن ما عسى الحورية الصغيرة أن تفعل من أجله؟ كانت تعلم أن البشر لا يستطيعون العيش مثلها تحت البحر. فغاصت بسرعة تحت الماء وتوجهت مباشرة نحوه، وتمكنت أن تمسك بقميصه، وتصعد به إلى السطح بأسرع ما تستطيع. وقد تمكنت أخيرًا من رفع رأسه فوق سطح الماء. وهناك أخذا يطفوان بينما كانت الأمواج تعلو وتهبط. وبحلول الصباح هدأت العاصفة. لكنها وجدت الأمير بلا حراك كما كان طوال الليل. ومن بعيد، رأت قمم تلال. وقالت: «أرض!»
عامت نحو الشاطئ ساحبة الأمير الشاب وراءها. لم يكن من السهل عليها سحبُه إلى الرمال الجافة، لكنها تمكنت أخيرًا من تنفيذ ذلك. هل فارق الأمير الشاب الحياة؟ وقفت بجانبه وأخذت تغنّي إحدى الأغنيات الحزينة. وفجأةً بدأ الأمير الشاب يتحرك. سألته وهي تلمس جبينه: «أوه! هل أنت بخير؟»
وحينها سمعت أصوات مجموعةٍ من الفتيات وهن يقتربن منها، فغاصت على الفور في البحر واختبأت خلف صخرة. لا يجب أن يروها؛ فهي حورية! ووجدت الفتيات الأمير الذي استيقظ الآن من غفوته. طلبت الفتيات النجدة لمساعدة الأمير، وسرعان ما أُخذ لكي تتمَّ رعايته. ما كان الأمير سيعرف أبدًا أنها أنقذت حياته. دخلت الحورية الصغيرة في حالة حزن شديد. وعندما رجعت إلى بيتها، طلبت منها شقيقاتها أن تروي لهن تفاصيل رحلتها بالكامل، لكنها كانت حزينة بما فيه الكفاية مما منعها من قول أي شيء.
إرسال تعليق