رَجُلُ الغَابَةِ وَالأَمِيرُ


كانَ يا ما كانَ، في قَديمِ الزَّمانِ، كانَ مَلِكٌ عَجوزٌ يَحكُمُ بِلادَ الصَّرْبِ. وَذاتَ يَومٍ، ذَهَبَ المَلِكُ في رِحْلَةِ صَيْدٍ إلى الغَابَةِ، وَعِوَضًا عن اصْطِيادِ طَرِيدَةٍ كالمُعتادِ، اصْطادَ هذه المَرَّةَ مَخلوقًا غَريبًا على شَكْلِ إنْسانٍ يَعيشُ في الغَابَةِ. كانَ شَكْلُ هذَا المَخلوقِ يَختَلِفُ كَثيرًا عَنْ شَكْلِ باقي المَخلوقاتِ التي رآها المَلِكُ مِن قَبلُ؛ فَقَد كانَ طَويلًا وَكبيرًا جِدًّا وَجِسْدُهُ مُغَطَّى كُلِّياً بِالفَراءِ، وَيَتَحَرَّكُ مِثلَ الحَيَواناتِ المُفتَرسَةِ وَيُصدِرُ أَصواتًا تُشْبِهُ الهَمْهَماتِ وَالشَّخيرَ.

شَعَرَ المَلِكُ بالفَخْرِ لِتَمَكُّنِهِ مِن اقْتِناصِ هذِهِ الطَّرِيدَةِ النَّادِرَةِ، وَأمَرَ بِأَنْ تُنقَلَ إِلَى داخِلِ القَلْعَةِ، وَوُضِعَتْ في زِنزانَةٍ خَاصَّةٍ. وَأَعْلَنَ المَلِكُ بَعْدَها أَنَّ كُلَّ مَن يَتَجَرَّأُ وَيُحاوِلُ إِطْلاقَ سَراحِ هذَا المَخلوقِ العَجيبِ مِنَ الزِنزانَةِ سَوْفَ يُواجِهُ عُقوبَةَ المَوْتِ لا مَحالَةَ.

وبِمَحضِ الصُّدْفَةِ، كانتِ الزِنزانَةُ تَقَعُ تَحتَ غُرْفَةِ نَوْمِ أصْغَرِ أبناءِ الأَمِيرِ. وَكانَ هذَا المَخلوقُ العَجيبُ يَئِنُّ وَيَبْكي طِوالَ اللَّيلِ. وَعلى الرَّغْمِ مِن أَنَّ ابْنَ الأَمِيرِ حاوَلَ في البِدايةِ أَلّا يَكْتَرِثَ لِمَا يَسْمَعُهُ مِن أَنينٍ وَبُكاءٍ، فَإنَّهُ في النِّهايَةِ لَم يَعُد يَسْتَطِعِ التَّحَمُّلَ أَكْثَرَ مِمّا فَعَلَ، فَنَزَلَ خِلسَةً في أَحَدِ الأَيَّامِ قَبْلَ طُلوعِ الفَجْرِ إِلَى الزِنزانَةِ وَفَتَحَ بابَها وَتَرَكَ الأسيرَ يَهْرُبُ مِنها.

وفي صَباحِ اليَومِ التَّالي، لَم يَعُدِ المَلِكُ وَحاشِيَةُ القَصْرِ وَالخَدَمُ يَسْمَعُونَ أَصواتَ الأَنينِ وَالبُكاءِ تُصْدَرُ مِنَ الزِنزانَةِ؛ مِمّا أَثَارَ اسْتِغرابَهُم الشَّديدَ. وَجَعَلَ المَلِكَ يَشْعُرُ بوجودِ شَيْءٍ غَيْرِ طَبِيعِيٍّ، فَنَزَلَ بِنَفْسِهِ لِيَسْتَطْلِعَ أَحوالَ الأسيرِ الَّذي جَلَبَهُ مِنَ الغابَةِ. وَعِنْدَما اكْتَشَفَ أَنَّ الزِنزانَةَ فارِغَةٌ، انْتَابَتْهُ مَوْجَةٌ عارِمَةٌ مِنَ الغَضَبِ الشَّديدِ، وَطَلَبَ مَعْرِفَةَ مَن كانَ لَدَيْهِ ما يَكْفِي مِنَ الجُرْأَةِ لِيُعْصِيَ أَوَامِرَهُ المَلَكِيَّةَ.

كانَ جَميعُ أَفرادِ الحاشِيَةِ في رُعْبٍ شَدِيدٍ لِمَنْظَرِ المَلِكِ وَهُوَ يُزَمْجِرُ وَيَتَوَعَّدُ الفاعِلَ بِأَشَدِّ العُقوباتِ، حتّى إِنَّهُ لَم يَتَجَرَّأ أَحَدٌ مِنْهُم عَلَى الكَلامِ. وفي النِّهايَةِ، تَقَدَّمَ ابْنُ المَلِكِ الأَمِيرُ الشابُّ وَاعْتَرَفَ أَمامَ والِدِهِ بِأَنَّ أَصواتَ البُكاءِ وَالأَنينِ الَّتي لَم تَنْقَطِعْ عَنْ مَسامِعِهِ طِوالَ اللَّيلِ حَمَلَتْهُ عَلَى إِطْلاقِ سَراحِ الأسيرِ المَسْكينِ دافِعًا الشَّفَقَةَ وَالرَّحمَةَ. وَلَمّا سَمِعَ المَلِكُ ذلِكَ مِن ابْنِهِ الأَمِيرِ الشابِّ، شَعَرَ بِأَنَّ دَوْرَهُ قَد حانَ لِيَشْعُرَ هُوَ نَفْسُهُ بِالحُزْنِ وَالأَسَى، لأَنَّهُ وَجَدَ نَفْسَهُ مُضْطَرًّا لِقَتْلِ ابْنِهِ، أَوْ يَجْعَلَ مِنَ الأَمْرِ المَلَكِيِّ بِقَتْلِ مَن يُطْلِقُ سَراحَ الأسيرِ مَوْضِعَ سُخْرِيَةٍ وَاسْتِهْزاءٍ مِنَ الحاشِيَةِ وَالرِّعَايَةِ.

غَيْرَ أَنَّ بَعْضَ مُسْتَشاري المَلِكِ، بَعْدَ أَنْ رَأَوْا مِقْدارَ القَلَقِ وَالخَوْفِ الَّذي يَشْعُرُ بِهِ المَلِكُ حيالَ مِصْداقِيَّةِ وَجِدِّيَّةِ الإِعْلاناتِ المَلَكِيَّةِ الَّتي يُصْدِرُها، اقْتَرَحُوا أَنَّ تَنْفيذَ الإِعْلانِ المَلَكِيِّ في هذِهِ الحَالَةِ يُمْكِنُ أَنْ يَتَحَقَّقَ بِكُلِّ بِساطَةٍ إِذا قامَ المَلِكُ بِنَفْيِ الأَمِيرِ الشابِّ بِشَكْلٍ نِهائِيٍّ إِلَى خارِجِ المُلْكِيَّةِ عِوَضًا عَنْ قَتْلِهِ.

شَعَرَ المَلِكُ بِسُرورٍ بَالِغٍ لِهذِهِ الوَسِيلَةِ الَّتي أَخْرَجَتْهُ مِنْ هذَا المَأزَقِ، خَاصَّةً أَنَّهَا تُحافِظُ عَلَى حَياةِ ابْنِهِ الأَمِيرِ الشابِّ وَعَلَى مِصْداقِيَّةِ الأَوَامِرِ المَلَكِيَّةِ الَّتي يُصْدِرُها فِي الوَقْتِ نَفْسِهِ. وهكذا أَمَرَ المَلِكُ بِإِبْعادِ ابْنِهِ الأَمِيرِ الشابِّ خارِجَ المُلْكِيَّةِ عَلى ألَّا يَعُودَ إِلَيْها أَبَدًا، وَفي الوَقْتِ نَفْسِهِ حَمَّلَ الابْنَ عِدَّةَ رَسائِلَ تَوْصِيَةٍ وَالكَثِيرَ مِنَ المَوارِدِ، وَسَاعَدَهُ الأَصدقاءُ وَالرِّجالُ الشُّجاعونَ ليَسيرَ فِي رِحْلَةِ النَّفْيِ بِسَلامٍ وَأمَانٍ.

أما المَخلوقُ الغَريبُ، فَتَبَيَّنَ لِلمَلِكِ أَنَّهُ كَانَ مَلِكَ الغَابَةِ وَرَئِيسَ مَلَكوتِها، وَقَد رَجَعَ إلى مَكانِهِ بَعْدَ إِطلاقِ سَراحِهِ، وَوَعَدَ أَنَّهُ سَيَكُونُ حَليفًا وَدَاعِمًا لِلمُلْكِ وَشُعوبِهِ فِي المُستَقبَلِ.

وهكذا دَارَت الدُّوَلُ وَتَغَيَّرَتِ الأحوالُ، وَتَعَلَّمَ المَلِكُ وَعَائلَتُهُ وَشُعوبُهُ دَرْسًا عَظِيمًا عَنِ الرَّحْمَةِ وَالشَّجاعَةِ وَالعَدْلِ.

Post a Comment

أحدث أقدم