كان يا ما كان، رجلٌ يُدعى أوجست، يعملُ في تجارةِ النبيذ، ويعيشُ مع زوجته نينا وابنتهما الصغيرة المحبوبة. كانت الطفلةُ الصغيرةُ مصدرَ سعادةٍ لا تُوصَف لوالديها.
وفي يومٍ من الأيام، بينما كانت نينا تُعِدُّ حساءَ الخضار لطفلتها التي كانت تلعب في فناء البيت تحت أشعة الشمس الدافئة، دخل رجلٌ شريرٌ خلسةً وأمسك بالطفلةِ وهرب بها.
يمكنُ للمرءِ أن يتصوَّر مقدارَ الحزنِ والكمَدِ الذي أصاب الأبوين، اللذين حاولا بكل الطرقِ والوسائلِ استعادة ابنتهما بلا جدوى. ولم يبقَ أمامهما سوى أن يُهوِّن أحدهما على الآخر هولَ المصاب، والصبر على المصيبة التي حلّت بهما في ابنتهما الوحيدة.
مرت خمسُ سنواتٍ من البكاءِ والحزنِ المتواصلِ على فقدانِ ابنتهما، ولم يتمكنا خلالها من العثور على أي أثرٍ لها.
وفي مساء أحد الأيام، وبينما كان أوجست عائدًا إلى البيت، لقاه في الطريق ولدٌ صغيرٌ يبلغ من العمر حوالي سبع سنوات، ناداه قائلاً: «من فضلك يا سيدي، أنا جائع.»
فقال أوجست للصغير: «حسنًا يا صغيري، تعال معي إلى البيت لتتناول العشاء معنا.»
أمسك بيد الصغير وسأله: «ما اسمك يا بني؟»
قال الصغير: «أورستو.»
قال أوجست: «وأين أمك؟»
ردَّ الصغير بحزنٍ: «تُوفيت منذ يومين فقط ووُورِيَت الثرى.»
شدّ أوجست برفق على يد الصغير، وسأله: «وأين والدك؟»
قال الصغير: «لم أره من قبلٍ إطلاقًا. كان عمري سنتين فقط عندما تركنا وذهب ليبحث عن الرزق في الأرض، كما ذكر ذلك في رسالةٍ تركها وراءه قبل سفره. ومنذ ذلك الوقت انقطعت أخباره عنا، ولم نعد نسمع عنه شيئًا، وأخذت أمي تبكيه كما لو أنه قد فارق الحياة.»
قال أوجست: «يؤسفني ذلك يا بني.» وخطر بباله فورًا أن يتبنى هذا الصغير ليكون مصدر سعادة وسلوى له ولزوجته، لكن كان عليه أن يتحدث إلى زوجته نينا أولًا.
شعر أوجست بغبطةٍ كبيرة لرؤية زوجته كيف استقبلت الصغير في بيتها.
وهكذا تبنّى أوجست وزوجته ذلك الولد الصغير، وأبدى أورستو الكثير من مظاهر الحب والعرفان لوالديه بالتبني، حتى شعرا بالامتنان والرضا لقيامهما بتبنيه، الذي ملأ حياتهما بالبهجة والسرور.
كبر أورستو وهو مثالٌ للولد الصالح والبار بأهله، وكان متفوقًا في دراسته وتعلم القراءة والكتابة جيدًا.
وعندما بلغ أورستو أشده، بدأ والده يستعين به في تجارة النبيذ، حيث برع أورستو في عمله وأثبت جدارته وقدرته في توصيل الطلبات من منزلٍ إلى آخر.
لكن هذا النوع من العمل لم يستهو أورستو كثيرًا، كان يريد عملًا آخر يُساعده على زيادة دخل والديه وزيادة ثروتهما ليؤمّن لهما حياةً كريمة في مرحلة الشيخوخة.
وهكذا أعطى أوجست ابنه بالتبني بعض النقود عندما بلغ الثامنة عشرة من العمر ليبدأ بها عملًا جديدًا.
اشترى أورستو عددًا من أكياس التبن، وتمكن من بيعها بربح جيد، ثم اشترى المزيد وبيعها أيضًا بربح. وبعد فترة قصيرة نمت تجارته وازدهرت، وتمكن من شراء عربة وحصان ودكان صغير.
ابتسم الحظ لهذا البيت الصغير، لكن دموع الحزن كانت تنهمر في غفلةٍ منهما كلما تذكّرا ابنتهما المفقودة، التي لم يتمكنا من نسيانها رغم فرحهما بوجود أورستو.
ومن فترةٍ إلى أخرى كانت الكآبة تظهر بوضوح على وجه نينا، وكان أورستو، عندما يعود إلى البيت، يجد أمه غارقةً في حزنٍ شديد.
كم كان يرغب أن يهوّن عليها، وكان مستعدًا لأن يضحّي بنصف عمره ليعرف مصير تلك الفتاة الصغيرة المسكينة.
وفي هذه الأثناء، قام أورستو ببناء بيتٍ صغير وجميل على تلةٍ تحيط بها الأعشاب الخضراء من كل جانب، وطلب من والديه بالتبني الانتقال إلى البيت الجديد ليعيشا هناك.
وهكذا توقف أوجست عن العمل في تجارة النبيذ، وأمضى كل وقته في العمل في حديقة المنزل بجانب زوجته الوفية، وهما يتحدثان طيلة الوقت تقريبًا عن ابنهما الشاب أورستو.
وفي أحد أيام الأحد، كانوا يتناولون طعام العشاء، عندما سمعوا طرقًا على الباب.
خرج أورستو ليرى من الطارق، وعاد ليخبر أبويه بوجود أحد عابري الطريق على الباب يطلب استضافته لفترة من الوقت للراحة.
رحب الثلاثة بالرجل، وأفسحوا له مكانًا على الطاولة ليشاركهم في تناول العشاء.
كان المسافر رجلًا كبير السن، تفوح منه رائحة الطرقات، وقد غزا الشيب رأسه، ويرتدي قبعة قش كبيرة تغطي معظم وجهه.
جلس معهم إلى الطاولة، وبادرهم بالشكر لاستقبالهم له دون معرفة مسبقة، ثم وضع أغراضه في زاوية البيت وهو ينظر حوله، وقال: «كنت مسافرًا على الطريق منذ يوم أمس بدون راحة ولا زاد، وسأكون ممتنًا لكم لو وفرتم لي قليلًا منهما.»
قالت نينا للمسافر: «تفضل اجلس معنا إلى الطاولة.»
وأحضر أورستو طبق طعام ووضعه أمام الضيف.
وأضافت نينا مجاملة: «كما ترى، نحن هنا وحدنا، وسنكون سعداء أن نتحدث مع مسافر يستطيع أن يخبرنا عما يجري في العالم.»
أجاب المسافر بصوت هادئ: «أخشى يا سيدتي العزيزة ألا أتمكن من إخباركم الكثير، لأنني أعاني من مرض شديد منذ أكثر من سنة، ولم يمضِ على خروجي من الكهف الذي كنت أعيش فيه سوى أيام معدودة فقط.»
خيّم الصمت على الجميع، ولم يعد أحد يتحدث حول الموضوع طيلة فترة تناول العشاء، وبدا الجميع كما لو كانوا يتعمدون الحديث عن أشياء عادية لتفادي الظهور بمظهر المتطفلين.
وفي وقت لاحق، وبينما كانوا يجلسون حول المدفأة الجدارية، نظرت نينا إلى النار الموقدة كما تفعل كل يوم، ثم صاحت فجأة: «أوه، ليتني أعرف شيئًا عن أحوال ابنتي الصغيرة المسكينة الآن!»
سأل الضيف باهتمام إن كان لديهم ابنة، فأخبرته نينا عن ذلك اليوم المروّع الذي فقدت فيه ابنتها، وكيف تبنيا أورستو لاحقًا ليحل محلها.
كان المسافر ينصت إليها باهتمام متزايد، وهو يمسح بين الفينة والأخرى قطرات العرق عن جبينه، مما أثار استغراب أوجست ونينا، لأن الغرفة كانت باردة أكثر مما هي دافئة.
وكثيرًا ما كان المسافر يقاطع برفق حديث نينا ليستفسر عن بعض التفاصيل.
وعندما انتهت نينا من سرد قصتها، بدا وجه الرجل شاحبًا كالحجر، وأخذ يحدق بشكل مستمر في أورستو، ثم انهار فجأة على الأرض فاقدًا الوعي.
قالت نينا: «لقد كان صديقنا المسكين صادقًا عندما أخبرنا بمرضه الشديد، والذي يبدو أنه لا يزال يعاني منه. سأعد له فراشًا ليستطيع أن يرتاح قليلاً.»
قام أورستو وحمل المسافر بين ذراعيه ووضعه برفق على الفراش.
فتح الرجل العجوز عينيه، وأخذ يحدق حوله في دهشة، ثم همس: «سيسيليا.»
غطى بعدها في نومٍ عميق، وبدا أنه نام طوال الليل، إذ استيقظ عند الفجر وأخذ يستعد للمغادرة.
استيقظ أورستو أيضًا عند الفجر، وانطلق بعربته نحو سوق المدينة ليبيع بضاعته كما يفعل كل يوم، لكنه تفاجأ كثيرًا عندما رأى المسافر العجوز يقف أمامه في وسط الطريق ويناديه باسمه طالبًا منه التوقف.
سأل أورستو المسافر بعد أن نزل من العربة: «ماذا تريد أيها العم الطيب؟»
أجابه: «لدي شيء هام جدًا أريد أن أخبرك به، ولم أستطع البوح به ليلة أمس أمام والدَيْك.»
قال أورستو: «في هذه الحالة، لا حاجة لي لسماع ذلك أبدًا؛ فأنا لا أخفي عنهما أي أسرار. تستطيع أن تقول أمامهما ما تريد أن تقوله لي.»
قال المسافر: «أتوسل إليك أن تسمعني وحدك استثناءً هذه المرة، إكرامًا لي كرجل عجوز ربما لن يعيش أكثر من بضعة أيام.»
فوافق أورستو، وأخذ المسافر يهمس بسرٍّ خطير في أذن أورستو، وهو يقول: «يا بني، لقد عرفتك اليوم بأنك ابني الضائع منذ زمن بعيد. أنا والدك الحقيقي، فقد كنت مخطوفًا منذ طفولتك وقد ضاع منك كل شيء.»
نهض أورستو بسرعة وهو في حالة من الاندهاش والتوتر الشديد، ونادى والدَيْه بالتبني وأخبرهما بما سمعه من المسافر العجوز.
كان الاثنان في صدمةٍ كبيرة، وأخذوا جميعًا الرجل العجوز إلى الطبيب لتلقي العلاج، وهو ما حصل بفضل رباطة جأش أورستو، حتى بدأ الرجل يستعيد عافيته تدريجيًا.
عاد الهدوء تدريجيًا إلى البيت، وقررت العائلة أن تبدأ حياة جديدة، لا تنسى ماضيها، لكنها تعيش حاضرها بحب وسلام.
وهكذا تكتمل قصة أورستو، ابن التبن، الذي أصبح شابًا ناجحًا، وفي الوقت نفسه اكتشف أسرار ماضيه الذي كان يختبئ خلف ظلال الغموض والألم.
إرسال تعليق