منذُ خمسمائةِ عام، وبالقُربِ من كوسكو، عاصمةِ إمبراطوريَّةِ الإنكا، كانتْ تعيشُ فتاةٌ تُدعى آمباتا مع والِدَيْها وأخَوَيْها. كانت العائلةُ فقيرةً، تُزرعُ الأرضَ بجهدٍ كبيرٍ في خدمةِ الإمبراطور، ملكِ الشَّمس.
صُدِمَتِ العائلةُ حين علمتْ بأنَّ حالةَ الأمير، الذي لم يكنْ يتمتَّعُ بصحَّةٍ جيِّدةٍ منذُ ولادتِه، قد تدهورَتْ. وكان ملكُ الشَّمسِ يخشى كثيرًا على حياةِ ابنِه الوحيد.
قال ساحرُ البلاطِ الملكي:
«سيِّدي، الأملُ الوحيدُ لإنقاذِ الأميرِ هو أنْ يشربَ من ماءِ البحيرةِ السِّحريةِ الواقعةِ في أقصى الأرض؛ حيث تَقتربُ السَّماءُ من الماءِ حتى تلامسَه، وتُضفي عليه قوَّةَ شِفاءٍ سحريَّة.»
أعلن ملكُ الشَّمسِ أنَّ من يُحضرُ ماءً من البحيرةِ السحريةِ سينالُ مكافأةً عظيمة. وبما أنَّ الذهبَ والمجوهراتِ كانت وفيرةً في حضارةِ الإنكا، ولم تكنْ تُمثِّلُ قيمةً تُذكَر مقارنةً بحقيبةِ ذُرة، فإنَّ المكافأةَ الحقيقيةَ كانت الأرضَ، وشرفَ الانضمامِ إلى العائلةِ الملكيَّة.
شكَّل هذا الإعلانُ فرصةً كبيرةً لأخَوَيْ آمباتا لخدمةِ ملكِهما؛ فتوسَّلا إلى والدَيْهما أنْ يسمحا لهما بالذَّهابِ في رحلتِهما.
قال الأبُ، وقد عقدَ ذراعَيْه:
«لكنَّ أقصى الأرضِ بعيدٌ جدًّا.»
وأضافتِ الأم:
«توجد هناكَ فهودٌ وأفاعٍ ضخمةٌ عندَ الحوافِّ الصَّخريَّة. ومَن يدري ما المخاطرُ التي قد تواجهانِها؟»
ردَّا بثبات:
«لكنَّ أميرَنا سيموتُ إنْ لم يشربْ من ماءِ البحيرةِ السِّحرية. علينا أنْ نُحاول!»
وأخيرًا، وافقَ الوالدان على ذهابهما، فانطلقا في رحلتهما الطويلة. سارا أشهُرًا عبر سلاسلَ جبليَّةٍ لا تنتهي، وكانا يظنَّانِ أنَّ كلَّ جبلٍ هو الأخير، وأنَّ البحيرةَ ستَظهَرُ خلفَه، لكنْ دونَ جدوى.
وفي أحدِ الأيامِ، وصلا إلى قمَّةِ جبلٍ آخرَ، وظنَّا أنَّه الأخير، لكنْ حينَ نظرَا في الأفق، شاهدا قممًا أُخرى لا تُحصى. فقال أحدُهما بيأس:
«لن نتمكَّنَ من العثورِ على البحيرةِ السِّحرية.»
قال الآخر:
«أعلمُ ذلك، لقد فقدنا الأملَ تمامًا.»
ـ «وماذا سنفعلُ الآن؟»
ـ «سيبدأ موسمُ الحصاد قريبًا، ووالدانا بحاجةٍ إلينا. دعْنا نأخذْ ماءً من هذه البحيرةِ الجبليةِ إلى الأمير؛ فلعلَّه يُساعده.»
تردَّدا كثيرًا، لكنهما في النهايةِ ملآ الجَرَّةَ بماءِ البحيرة، وأحكما إغلاقها، ثم عادا بها إلى القلعة.
حينَ صبَّ ساحرُ البلاطِ الماءَ في قارورته، صدرَ صوتٌ غريبٌ، ثم تبخَّرَ الماءُ على الفور، فاكفهرَّ وجهُه وقال:
«قارورتي السِّحريةُ لا تحتفظُ إلَّا بماءِ البحيرةِ السِّحرية. هذا ماءٌ زائف! إنهما مُحتالان!»
صرخ الملكُ:
«كيف تجرُآنِ على خداعِ العائلةِ الملكية؟! زُجُّوا بهما في السِّجن!»
وانتشرَ الخبرُ سريعًا في أرجاءِ المملكة. وعلى الرَّغمِ من أنَّ حالتهما قد تدهورتْ خلف القضبان، بقي لدى آمباتا أملٌ ما دام شقيقاها أحياء.
توسَّلت آمباتا إلى والدَيْها أنْ تسمحا لها بالبحثِ عن البحيرةِ السِّحرية. فرفضا قائلَين:
«لن نُجازف بكِ أنتِ أيضًا! لن يتبقَّى لنا أحدٌ إنْ ذهبتِ.»
لكنَّها أصرَّت، مؤكِّدةً أنَّ هذه هي الوسيلةُ الوحيدةُ لإنقاذِ شقيقَيْها، وأنَّ الأميرَ يحتضرُ فعلًا، وقد دخلَ في غيبوبة.
وأخيرًا، وافقَا على مضض، وأعطياها كيسًا فيهِ حبَّاتُ جوزٍ وذُرةٌ محمَّصة، ولاما صغيرًا يُؤنِسها في وحدتِها. ودَّعَها الأبوان بتنهيدةٍ طويلة.
في ليلتها الأولى، احتضنت آمباتا اللاما الصغيرَ بشدَّةٍ وتنعَّمت بدفئه. أمَّا في الليلةِ الثانية، فقد أرعبتْها صرخةُ فهد، وخشيت على رفيقها، فدلَّته على طريقِ العودةِ إلى البيتِ، ثم صعدتْ شجرةً عالية لتقضي ليلتَها بأمان.
رغمَ أنَّ الشجرةَ لم تُوفِّر لها مكانًا مريحًا، فقد حملتْ لها مفاجأة. ففي صباحِ اليومِ التالي، شاهدت زوجًا جميلًا من الببغاوات القرمزيَّةِ، وكانا يُصدرانِ أصواتًا لطيفة، وتَميَّزَ وجهاهما بالبُقَعِ البيضاء، وأجنحتُهما بالبُقَع الزرقاء والصفراء. وبينما كانت تتناولُ الجوز والذُّرة، قدَّمت لهما بعضًا منه.
أقبلا على الطَّعامِ، وقال أحدُهما:
«كوا! كوا! ماذا تفعلُ هذه الفتاةُ هنا فوقَ الشجرة؟ كوا!»
قصَّت آمباتا عليهما قصتَها كاملةً. فقال أحدُ الطائرَين:
«لن تستطيعي الوصولَ بمفردِكِ! كوا!» ثمَّ طارا، وعاد أحدُهما بعد قليلٍ قائلًا:
«لقد أعجبنا طعامُكِ اللذيذ، وسنُساعدكِ!»
قام الطائران بفركِ ظهريْهما، فتساقطت ثلاثُ ريشات، أحضراها إليها وقالا:
«هذه الريشاتُ سحريَّة. أمسكيها كمروحة، ستأخذكِ حيث تشائين، وتحميكِ من كلِّ خطر.»
عقدَت آمباتا الريشاتِ بشريطٍ صوفيٍّ من شعرِها، وقالت:
«من فضلكِ، خذيني إلى البحيرةِ السِّحرية.»
وما إنْ نطقتْ بذلك، حتى ارتفعت في الهواءِ كأنها ريشةٌ تطير، وحملتْها المروحةُ فوق قممِ جبالِ الأنديز المغطَّاة بالثلج، حتى هبطتْ بها بأمانٍ عند قمَّةِ آخرِ جبل، حيث تَلمسُ السماءُ ماءَ البحيرةِ المتلألئ.
وقبل أنْ تملأ جرَّتها، خرجَت من الغابةِ أفعى جرسيةٌ ضخمة. تقدَّمت نحوها بسرعة، ففتحت آمباتا مروحتها وأغمضتْ عينيها، فإذا بالأفعى ترتطمُ وتسقطُ ميتة.
ثمَّ هاجمها عقربٌ ضخم، ففتحت مروحتها من جديد، فسقطَ العقربُ مُنقلبًا على ظهرِه، وسرعان ما هدأتْ حركتُه.
وبينما هي تسيرُ نحو البحيرة، هاجمها جيشٌ من النملِ المتوحِّش. ففردَت المروحةَ بسرعة، فتساقطَ النملُ حولها جثثًا هامدة.
أخذت جرَّتها، وملأتها من ماءِ البحيرةِ السِّحرية، ثم قالت للمروحة:
«من فضلكِ، خذيني إلى قلعةِ ملكِ الشَّمس.»
وبعد لحظات، كانت آمباتا أمام القلعة. أُدخِلَت إلى غرفةِ الأمير، وسلَّمت الجَرَّةَ إلى الساحر. صبَّ الساحرُ الماءَ في قارورتِه، فلم يتبخَّر، وارتسمَت على وجهِه ابتسامةٌ عريضة.
قطرَ بضعَ قطراتٍ على شفتي الأمير، فتحرَّك لسانُه، وفتح عينَيْه، وابتسم، ثم جلس وقال:
«أشعر بتحسُّن كبير!»
أشرقَ وجهُ ملكِ الشَّمس، وسألها:
«هل فعلتِ ذلكِ حقًّا؟»
قصَّت عليه ما جرى، فانبهر بها، وقال:
«بإمكانكِ العيشُ هنا والانضمامُ إلى العائلةِ الملكية.»
أجابت:
«جلالة الملك، لديَّ ثلاثةُ مطالب.»
قال:
«اطلبي ما شئتِ.»
ـ «أولًا، إطلاقُ سراحِ شقيقَيَّ.»
ـ «موافق.»
ـ «ثانيًا، إعادةُ الريشاتِ السحريةِ إلى الببغاوَيْن.»
وما إنْ أنهتْ كلامَها، حتى انطلقت المروحةُ من خصرِها، وخرجت من نافذةِ القاعة.
قال الملكُ مبتسمًا:
«يبدو أنَّ هذا الطلبَ قد تحقَّق أيضًا. ما طلبُكِ الأخير؟»
ـ «أرغبُ أنْ تُمنَحَ عائلتي قطعانًا من اللاما والألبكة والفكونة، مع أراضٍ كافيةٍ لرعيها، كي نحيا بكرامةٍ في شيخوختنا، ونرعاهم أنا وشقيقاي كما يليق.»
قال الملك:
«سأفعل ذلك، بشرطٍ واحد: أنْ تَعديني بزيارتنا دائمًا كصديقةٍ عزيزة، ما دمتِ لم تَنضمِّي بعدُ إلى العائلةِ الملكية.»
لكنْ بعدَ زياراتٍ متعدِّدةٍ للأمير، توثَّقت العلاقةُ بينه وبين آمباتا، وتحولَت إلى حبٍّ حقيقي. وفي النهايةِ، انضمَّت إلى العائلةِ الملكيَّة، وكان زفافُها يومًا مشهودًا، وشعرَ والدُها، ووالدتُها، وشقيقاها، بفخرٍ وسعادةٍ لا يُوصَفان.
إرسال تعليق